العمارة العربية الإسلامية والبيئة

منذ القدم، تفاعل الإنسان بتوافق مع البيئة الطبيعية المحيطة به ,فلقد استخدم مواهبه في إيجاد تقنيات لإستيفاء حاجاته سواء من الغذاء أوالمسكن، فكانت مبتكراته في الإنتاج طبيعية ونفذت بنفس المواد التي قدمتها البيئة له. من حيث المسكن ,يعَدُّ الطين من أقدم مواد البناء التي عرفها الإنسان منذ ما يقارب عشرة آلاف سنة,  فالطبيعة أوحت للإنسان إستخدام هذه المادة والتي بها بنى برج بابل في القرن السابع قبل الميلاد كأول ناطحة سحاب عرفها التاريخ ,وكذلك إنتشر البناء بالطين وبتناغم مع البيئة في حضارات بلاد الرافدين ومصر, والحضارة العربية والإسلامية وفي الهند والمكسيك وفي حضارات متنوعة في إفريقيا.  

islamic-architecture

انبثقت الفكرة الأساسية لمفهوم المدن من المنطقة العربية التي انصهرت بتقنية وفن البناء بالطين. حيث اعتمد السكان المحليين فيها وعلى مرِّ العصور على البناء بالطين من خلال تقنيات بسيطة ومتنوعة وذلك من خلال الخبرات والمهارات المتوارثة عبر الأجيال التي ازدادت تطوراً لتشييد نماذج الأبنية كافة, كانت هذه البساطة مرتبطة بالذوق والإنسجام الجمالي، كما كانت مقرونة بعلم واسع بالفطرة والتجربة بهندسة البناء, فهم يعرفون تمام المعرفة الفوائد الفيزيائية لهذه المادة وكيفية التعامل معها وتوظيفها التوظيف الأمثل الذي يستجيب لجميع المتطلبات الثقافية والإجتماعية والإقتصادية لشعوب المنطقة,حيث أنها كانت تراعي المحددات البيئية كالمناخ ونوعية التربة والمواد المتوفرة من جهة ،ونوعية الخبرات المتوفرة بكل منطقة من جهة أخرى, فالبيئة العربية ذات مناخ جاف محمل في الأتربة ولذلك يجب مراعاه هذه الحقيقة عند تصميم البناء .

ولا تزال البلاد العربية تحتفظ بشواهد رائعة عدة لأولى المدن التاريخية التي بنيت كاملة بالطين كمدينتي شبام وصعدة في اليمن ومدينة أدرار في الجزائر ومدينة مراكش في المغرب ومدينة غدامس في ليبيا ومدينة حلب في سوريا ومدينة أريحا في فلسطين، بالإضافة إلى بعض المدن السعودية كحائل والرياض؛ ونلاحظ أيضاً إستمرار العمارة الطينية في اليمن والتي تميزت عماراتها بالإرتفاعات لعدة طوابق.

إلا أنه ومنذ منتصف القرن الميلادي الماضي وكنتيجة طبيعية لما شهده العالم من تغيرات كبيرة وكثيرة في كافة المجالات ,بدأ البناء بالطين في البلاد العربية بالإضمحلال وتم إستبداله بمواد البناء الحديثة المستنزفة للطاقة والمنتجة للنفايات بشكل كبير ,لم تحظ مواد البناء الحديثة بالدراسة الكاملة لمعرفة موافقتها للأحوال الإقتصادية والإجتماعية والمناخية-البيئية للمنطقة العربية،ولذلك إنتقلت الكثير من البلاد العربية وبصورة مفاجئة من إقتصاد إقليمي مستقل, إلى إقتصاد عالمي مبني على نشر منتجات الشركات الصناعية المتعددة الجنسيات التي أجهزت على الحرفيين المحليين.

نظرية حسن فتحي:  العمارة التقليدية وأبعادها البيئية

( لقد كان حسن فتحي فتحاً جديداً اكتشف ما حولنا ولفت نظرنا إلى ما لا نراه تحت أقدامنا ) فرانك لويد يعتبر المعماري حسن فتحي واحداً من أشهر عشر معماريين في العالم وأكبر داعية للعمارة المحلية والذي مزج عمارة الطين بالعمارة العربية الإسلامية, حيث أنه طرح منهجاً وسطاً يعتمد على التقنية المتوافقة والتي كان يحلم بإنشاء معهد دَوْلِيّ لها، ولقد كان له إهتمام واضح بإجراء البحوث على المواد المحلِّيَّة وإمكانية إستخدامها في الوقت الحاضر مع مراعاة الظروف البيئية، كما اهتم فتحي بالبحوث المناخية في العمارة والتخطيط ،وألف في ذلك كتابه المعروف:(الطاقة الطبيعية والعمارة التقليدية).

كانت ريادة حسن فتحي في إكتشاف التكنولوجيا المتوافقة عن طريق إيجاد عمارة بتكلفة رخيصة وبإستخدام مواد طبيعية وتصميمات محلية وقدرات الأفراد الذين سيسكنون فيها للتتشيد, تتركز نظريته بإكتشاف الجوانب الإنسانية لمادة الطين إذ رأى أن هذه المادة تواجه كل المتطلبات المعيشية للإنسان وظيفياً ومناخياً وبيئياً, ولقد كان ينادي بإعطاء كل مواطن قطعة أرض في الصحراء, إن المقصود الحقيقي لنظريته هو معالجة المناخ والعمارة المرتبطة في البيئة في العالم الإسلامي فلقد كان يقول ليس من المعقول أن نشيد بيتاً شرقياً في أوروبا أو بيتاً أوروبياً في الصحراء، من الخطأ نقل الأفكار المعمارية من بلد إلى أخر دون إحترام الواقع المناخي المحلي .

لماذا البناء بالطين؟

إن ضرورة البحث عن مواد طبيعية كمواد بديلة في عملية البناء تزداد يوماً بعد يوم بسبب التكلفة البيئية والمادية لمواد البناء الحديثة. يعتمد البناء بالطين بشكل عام على إختيار التربة المناسبة مع طبيعة المنطقة ومناخها، كما تتمتع هذه المادة  بعدد من الإمكانات والمميزات البيئية المهمة والتي يمكن إيجازها بما يلي :

يعتبر الطين مادة طبيعية وصديقة للبيئة ,لذلك فإن البناء بالطين يساعد على الحد من إستنزاف الموارد الطبيعية الحيوية و إنبعاثات الكربون لإستخدامه الحد الأدنى من المواد المصنعة.

التوفير في إستهلاك الطاقة وذلك لوفرة الطين في غالب مواقع التنفيذ مما يسهم في توفير الطاقة المستهلكة في النقل بشكل كبير ,كذلك يكمن توفير الطاقة في أثناء عمليات التشييد للمباني الطينية وذلك عن طريق إستخدام الآلات والأدوات البسيطة في التشكيل والطاقة الشمسية في التجفيف وهي مادة رخيصة الثمن و تستطيع أن تقدم إنتاجاً مباشراً وسريعاً. كما توفر الأبنية الطينية الطاقة المستخدمة للتبريد والتدفئة عن طريق خصائصها الحرارية الإيجابية حيث أنها تتميز بالقدرة على تخزين الحرارة والبرودة وفي الوقت نفسه ضعف توصيلها للحرارة الخارجية. يؤثر ذلك في تحسين المناخ فمن المعروف برودة المباني الطينية صيفًا ،ودفؤها شتاءً وهذا ما أثبتته العديد من الدراسات الحديثة، كما ويمكن وبإضافة مواد رابطة وبنسب مدروسة الوصول إلى تحقيق المتانة والعزل اللازمين في البناء .

الحد من التلوث وسهولة التدوير : إن مادة الطين مادة طبيعية متوازنة بيئياً وتوفر مناخاً داخلياً صحياً,حيث أن إستخدمها يحد من التلوث وإنتاج النفايات والبلاستيك وإستنزاف البيئة في جميع مراحل التصنيع أو حتى في حال هدم المنزل حيث أن العناصر الطينية تتميز بسهولة تدويرها بشكل طبيعي فالأبنية الطينية آتية من الأرض وتعود إليها وبالتالي يمكن تلافي تراكم المخلفات الناتجة عن أعمال البناء والهدم  وما تمثله من تشويه كبير للبيئة .

توجهات جديدة

مع تزايد وتفاقم المشاكل البيئية ,يعتبر البناء بالطين بديلاً قوياً لتقنيات البناء الحديثة, حيث إن إعتماد عمارة الطين يعيد العلاقة الحميمة بين الإنسان والبيئة .إن الطين لا يخلو من بعض العيوب إلا أن أغلب سلبياته يمكن تلافيها بإستخدام التقنيات المتوفرة الحديثة. علينا العودة إلى تراثنا العربي وأن نتعلم من أجدادنا الذين عاشوا بتناغم مع البيئة دون إحداث خلل في النظام البيئي. إننا اليوم بحاجة ماسة لتقنيات حديثة بيئية وإقتصادية مستمدة من تراثنا بما يتناسب مع عصرنا وواقعنا وحضارتنا ومناخها.

التوصيات

1.      توعية الناس عامة بالمميزات المتعددة لهذه المادة الطبيعية وإدخال تدريس مادة البناء بالطين في الجامعات العربية .

2.      القيام بالبحث والدراسات عن عظمة المدن المهجورة في الوطن العربي وسر تماسكها عبر القرون.

3.      الإهتمام بترميم المباني الطينية التاريخية بما يتناسب والمواد الأصلية المستخدمة في بنائها.

4.      التركيز على البعد البيئي للبناء بالطين وإبراز جوانبه البيئية والإقتصادية عن طريق الدراسات المتخصصة، سواء دراسة التكلفة الأولية للبناء أو التكلفة التشغيلية من إستهلاك للطاقة والمياه وإنتاج النفايات وغيرها ، ومقارنة ذلك بالمباني المماثلة المشيدة بالمواد الأخرى.

Tagged , , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

About Nura A. Abboud

Nura A. Abboud is an environmental activist and Founder of the Jordanian Society for Microbial Biodiversity (JMB), the only NGO in the Middle East concerning the microbial biodiversity. Nura specializes in molecular biology, biological sciences, microbial biodiversity, genetic fingerprinting and medical technologies. Her vision is to establish an eco-research center in the astonishing desert south of Jordan. She has received several scholarships and awards including honorary doctorate in Environmental leadership.

2 Responses to العمارة العربية الإسلامية والبيئة

  1. Pingback: المشربية: بين الجمال والوظيفة | EcoMENA

  2. Pingback: التنميه المستدامه في العالم العربي | EcoMENA

Share your Thoughts

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.