الاستثمار المؤثر والاستدامة – المستقبل هنا

تتعلق التنمية المستدامة بإيجاد طرق أفضل للقيام بالأعمال مهما كانت طبيعتها، سواء في المستقبل أو في الوقت الحاضر. تتطلب تحديات اليوم وطوحات الغد تغييرًا جذريًا في كيفية قيامنا جميعًا بأعمالنا وإدارة مواردنا. والاستثمار ليس بعيدًا عن كل هذا. فقد بدأ التحول في طريقة تفكير المستثمر في العام 2007 بدخول مفهوم الاستثمار المؤثر (Impact Investing) لأول مرة. ومع نهاية العام 2018، يدير أكثر من 1300 مستثمر مؤثر 502 مليار دولار أمريكي بهدف إحداث تغيير اجتماعي و / أو بيئي إيجابي، بحسب تقرير .(GIIN – Sizing the Impact Investing Market, 2019)

اليوم، يواجه عالمنا العديد من التحديات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والتي تضخمت وتعقدت بفعل جائحة كوفيد-19. فهل يساهم الاستثمار المؤثر في الدفع باتجاه تعاف مبتكر ومستقبل أكثر عدالة وصحة واستدامة؟

impact-investing

من المسؤولية الاجتماعية نحو التأثير المستدام

في البدايات، كانت الشركات تحاول إظهار مسؤوليتها نحو المجتمع والبيئة من خلال التركيز على بعض القضايا البيئية مثل الحفاظ على المياه والطاقة، وحملات النظافة، والترويج للمنتجات الرفيقة بالبيئة. وكان من الجيد القيام بذلك، لكنه لم يكن محوريًا لعمل تلك الشركات. ثم بدأت استراتيجيات المسؤولية الاجتماعية للشركات في تضمين البيئة كمحور أساسي إلا أنها استمرت في التركيز على الفعاليات والأنشطة المتفرقة التي تفتقر إلى ارتباط حقيقي مع الأعمال الأساسية للشركات مع الاهتمام بما يجعلها تظهر بصورة أفضل. ثم دخل مفهوم إدارة الاستدامة وإعداد التقارير المتعلقة بذلك واعتمد عدد من الشركات معايير وإجراءات مبادرة الإبلاغ العالمية (GRI)  وغيرها من الأطر العالمية لقياس وتوثيق ونشر أدائها في مجال الاستدامة.

لا شك أن السياق المتغير المرتبط بالتحديات المتزايدة والمتداخلة مثل تغير المناخ والفقر وضعف العدالة الاجتماعية، يتطلب عقلية مختلفة. لذا، يسعى اليوم العديد من قادة الأعمال ذوي الرؤية الثاقبة والشمولية إلى تبني إطار “البيئة والمجتمع والحوكمة (ESG)” كمقياس جديد لتعظيم القيمة وتقليل المخاطر. ويتطلب ذلك تغييرا جذريا من النهج التقليدي للمسؤولية الاجتماعية للشركات نحو عملية أكثر تكاملاً وتعاونًا تعزز القيمة المضافة للأعمال، وتزيد الإيرادات، وتساهم بالتوازي في إحداث تأثير إيجابي على المجتمع و/ أو البيئة. وغدا إطار البيئة والمجتمع والحوكمة جزءًا هاما من عملية التقييم للشركات حيث يعتمد عليها المستثمر لتحديد المخاطر غير المالية التي قد تشكل تهديدًا على الشركة والأصول.

وعلى مسار مواز، بدأت عقلية المستثمر بالتحول بعيدا عن الاستثمار التقليدي الذي يرى الاستثمار الهادف للربح والتبرعات الخيرية على أنهما مسارين منفصلين، باتجاه تبني الاستثمار المؤثر. حيث يسعى المستثمرون المؤثرون إلى إثبات قدرتهم على تحقيق عوائد مالية تنافسية وخلق تأثير اجتماعي و/ أو بيئي إيجابي من خلال استراتيجية واحدة، تعرف باسم “Double Bottom Line”.

تتم الاستثمارات المؤثرة في الغالب من خلال صناديق الاستثمار الخاص المغلقة (Closed-end Private Equity) وصناديق رأس المال المغامر (Venture Capital)، مع دخول صناديق الدخل الثابت (Debt Funds) لهذا المجال مؤخرًا. ويبدو أن صناديق التقاعد في بعض البلدان تجد في الاستثمار المؤثر نهجا مساعدا لتحقيق عدد من الأهداف منها دمج أهداف التنمية المستدامة في الاستثمار والتنويع في أوجه الاستثمار، وتتوفر أمثلة ناجحة في بعض الدول الأوروبية التي بدأت قبل غيرها في استكشاف هذا المجال.

ما هو “الأثر”؟

يتعلق الأمر بالسياق بشكل رئيسي. فالأثر يحمل معنى مختلفا باختلاف الأشخاص والمواقع والأولويات، إلا أن العامل المشترك في جميع التعريفات هو أن الأثر يتم تحديده ومتابعته من قبل أصحاب المصلحة والمجتمعات والمنظمات التي يخدمها الاستثمار. ومن الأمثلة على معايير الأثر المجتمعي والبيئي: الوظائف التي يتم استحداثها، والأشجار التي يتم زراعتها، وكمية الانبعاثات الكربونية التي يتم تخفيضها، ومعدل الارتفاع في الدخل، وعدد النساء الممكنة اقتصاديا، والاتفاقيات المبرمة مع سلاسل التزويد المحلية، وغيرها. وللقيام بقياس الأثر، يستوجب وضع إطار فعال لتتبع المؤشرات الكمية والنوعية للمخرجات والنتائج من قبل كل من المستثمر والشركات التي يستثمر بها. وعادة ما يكون هذا التتبع مصحوبًا بتحليل للأثر وإعداد للتقارير والإفصاح عن ذلك كله لأصحاب المصلحة والشركاء.

الاستثمار المؤثر وأهداف التنمية المستدامة

حتى قبل تفشي جائحة كوفيد -19، قدرت فجوة التمويل لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030 بنحو 2 تريليون دولار أمريكي سنويًا. ومع ذلك، نجد عدة أسباب للتفاؤل، حيث يتم توجيه المزيد من التمويل المؤثر نحو الاستدامة. فبحسب تقرير (GIIN – Sizing the Impact Investing Market, 2019)، واحد من كل أربعة دولارات من الأصول المدارة باحتراف حول العالم (البالغة 13 تريليون دولار أمريكي) يأخذ في الاعتبار مبادئ الاستدامة .

composting-qatar

سبب آخر للتفاؤل هو حقيقة أن الشباب من جيل الألفية والنساء يقودون التحول في السوق المالي من خلال إعطاء الأولوية للأثر قبل الربحية. فقد ذكر تقرير New Spectrum Group لعام 2019 أن “أكثر من نصف المستثمرين من جيل الألفية (52٪) يرون المسؤولية الاجتماعية لاستثماراتهم كمعايير اختيار مهمة، مقارنةً بأقل من 30٪ من مستثمري حقبة الحرب العالمية الثانية و 42٪ من مواليد (1965 – 1979)”. من ناحية أخرى، توائم النساء بين احترام القيم وتحقيق الربح في كافة قراراتهن، ومن المتوقع أن يصبحن أكبر المستفيدين من تحويل الثروة بين الأجيال والمقدر ب 30 تريليون دولار على مدى السنوات الخمس والعشرين القادمة.

في حين أن الكثيرين يشككون في الجدوى الاقتصادية من الاستثمار في أهداف التنمية المستدامة، تلعب المشاركة القوية للشركات والمستثمرين دورًا مهمًا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ويتحقق ذلك إما من خلال مواءمة استراتيجيات الاستثمار والأعمال مع واحد أو أكثر من أهداف التنمية المستدامة؛ أو – وهو الأهم – من خلال تصميم المنتجات التمويلية وأدوات السوق التي من شأنها أن تدعم تحقيق كل هدف من أهداف التنمية المستدامة. ويجد العديد من المستثمرين المؤثرين أن أهداف التنمية المستدامة مفيدة لأكثر من غاية منها أنها تشكل إطارا شاملا لإعادة تحديد الأولويات ومواءمة أهداف الاستثمار أو الشركة مع احتياجات أصحاب المصلحة، كما أنها تشكل أداة فعالة للقياس والإفصاح عن الأثر المحقق، علاوة على جذب المزيد من التمويل، وإيجاد شراكات جديدة.

لم يعد معيار النجاح من منظور المجتمع هو الربحية المالية فقط. بل أصبح الأثر هو الغاية التي تضمن الوصول للمال والشهرة. ولم تعد معضلة الاستثمار مقابل القيم تشكل تحديا اليوم فالاستثمار المؤثر يحقق الانسجام من خلال توجيه الموارد المالية لخدمة المجتمع والبيئة.

Tagged , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

About Ruba Al-Zu'bi

Ruba Al Zubi is a Sustainability Policy and Governance Advisor/Expert. She is a staunch advocate for policy-enabled action and has gained a unique experience in the areas of policy and planning, institutional development, sustainability mainstreaming into economic sectors, donor relations and research and innovation management. She recently served as Advisor to the President for Science Policy and Programme Development, Royal Scientific Society (RSS – Jordan). Prior to that, Ruba led the Scientific Research Department at Abdul Hameed Shoman Foundation, served as the first Policy Director at the Ministry of Environment, established and led several departments at the Development and Free Zones Commission, and served as the Chief Executive Officer of EDAMA Association for Energy, Water and Environment. In the nonprofit world, Al Zubi is a Plus Social Good Advisor with the United Nations Foundation and a Founding Member of Jordan Green Building Council. She is a global volunteer, mentor, speaker and blogger.

Share your Thoughts

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.