هل تغير المناخ سيعيد تشكيل حياتنا

كانت حياة الإنسان تعتمد على الطبيعة بشكل مباشر وأساسي، إذ شكلت العناصر الطبيعية المحيطة مصدرًا رئيسيًا لكل متطلبات الحياة اليومية. فقد اعتمد الإنسان في غذائه على ما تجود به الأرض من نباتات وثمار، وفي تنقله على الأنهار والحيوانات، وفي مسكنه على المواد الخام الطبيعية مثل الحجارة والخشب والطين. كما استمد طاقته من الموارد البيئة، فاستخدم الماء والرياح والحيوانات في الزراعة وطحن الحبوب وري الأراضي. غير أن هذا الارتباط الوثيق بدأ في التلاشي منذ اللحظة التي أطلقت فيها الثورة الصناعية شرارتها الأولى في القرن الثامن عشر في بريطانيا، حيث كانت بمثابة نقطة تحول جذرية في الاقتصادات والمجتمعات والبيئة على مستوى العالم.

how climate change is impacting our life

الثورات الصناعية

شَهِدت الثورة الصناعية تطورًا متسلسلًا عبر عدة مراحل حتى بلغت شكلها الحالي في القرن الحادي والعشرين. وقد مرت بأربع مراحل رئيسية، تميزت كل منها بابتكارات وتقنيات أحدثت تحولات جذرية في أساليب عمل الإنسان وتفاعله مع بيئته المحيطة. فقد شهدت الثورة الصناعية الأولى الانتقال من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي، مع ظهور المصانع التي حلت محل الأعمال اليدوية التقليدية، مما أدى إلى زيادة الإنتاج وتغيير نمط الحياة. وثم تبعتها الثورة الصناعية الثانية باكتشاف الكهرباء وظهور الإنتاج الضخم، مما سرّع عمليات التصنيع وتوسّع نطاق الاستهلاك. ثم جاءت الثورة الصناعية الثالثة التي اعتمدت على الإلكترونيات والحواسيب والإنترنت، مما أحدث ثورة في التواصل والمعلومات. وأخيرًا الثورة الصناعية الرابعة التي نعيشها اليوم، التي تقوم على الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، والتي تعيد تشكيل أيضا الاقتصادات والمجتمعات بطرق غير مسبوقة. ولم تكن هذه التحولات مجرد تقدم تقني، بل جاءت مصحوبة بتغييرات اجتماعية وسياسية وبيئية عميقة، حيث ساهم الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية في اختلال التوازن البيئي وظهور الحالات المناخية المتطرفة.

التغيرات المناخية

صحيح أن الثورات الصناعية احدثت تقدماً كبيراً في حياة الانسان، لكن هذا التقدم كان على حساب الطبيعة وممتلكاتها. فقد اعتمدت تطوراتنا واقتصاداتنا على الوقود الأحفوري واستنزاف الموارد الطبيعية من مياه عذبة، وغابات، وتربة، ومعادن بشكل غير مستدام. جميع هذه الأنشطة البشرية ساهمت في زيادة انتاج الغازات الدفيئة خلال العقود الماضية، متسببة في ارتفاع درجة حرارة الأرض. ووفقا للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، قد ارتفع متوسط درجة حرارة الأرض إلى اكثر من 1.5 درجة مؤية في سنة 2024 مقارنة ما قبل الثورة الصناعية الأولى، وهذا الارتفاع يشكل تهديد صريحاً بحتمالية الكوارث الطبيعية والأحوال الجوية القصوى. فمثلا تمتص المحيطات أكثر من 90٪ من هذه الحرارة المحتبسة، مما ادى الى ارتفاع المتوسط العالمي لمستوى سطح البحر إلى 3.6 ملم سنويًا خلال الفترة 2005-2015 وقد يصل إلى 1.10 متر بحلول عام 2100 إذا تجاوز الاحترار 4 درجات مئوية بحلول عام 2100. وتتوقع الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أن أكثر من مليار شخص على مستوى العالم يمكن أن يتعرضوا لمخاطر مناخية ساحلية بحلول عام 2050.

فالاحتباس الحراري لايسبب فقط زيادة في مستوى سطح البحر بل يزيد أيضا من حالات الجفاف وطول أمدها. فارتفاع درجات الحرارة تزيد من عملية التبخر مما يقلل من مستويات المياه في الأنهار والمياه الجوفية، وإعاقة نمو الأشجار والمحاصيل، وازدياد هجمات الآفات وحرائق الغابات. فكثيرا ما يكون للجفاف آثار على البنية التحتية للنقل والزراعة والغابات والأنهار. فعلى سبيل المثال في عام 2023، شهدت جمهورية بنما واحدة من أكثر السنوات جفافا على الإطلاق، مما أدى إلى فرض قيود على أكبر السفن التي تمر بقناة بنما (التي تتعامل مع حوالي 6٪ من التجارة البحرية العالمية) بسبب انخفاض منسوب المياه في البحيرات القريبة. وفي الجانب الآخر أوائل يوليو 2024، واجهت منطقة البحر الأبيض المتوسط ومناطق واسعة من أوروبا الشرقية ظروفا تربة أكثر جفافا من المعتاد، مما تسببت بأضرار اقتصادية تقدر بنحو 2.7 مليار يورو.

الأتفاقيات المناخية

فلمنع هذه الظواهر، قد بدأ العالم مشوار ابتدأ من تأسيس اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي سنة 1992، كأول معاهدة بيئية دولية تهدف إلى منع التدخل البشري الخطير في النظام المناخي. كما تلت هذه المعاهدة العديد من التحولات البيئية. ففي عام 1997، تم انشاء بروتوكول كيوتو، حيث ألزم الدول الصناعية والاقتصادات التي تمر بمرحلة انتقالية بالحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وخفضها وفقًا للأهداف الفردية المتفق عليها، وكانت 192 دولة هي جزء من بروتوكول كيوتو، لكنه وضع أهداف انبعاثات ملزمة قانونيا فقط لـ 37 دولة صناعية بالإيضافة للاتحاد الأوروبي. وفي عام 2015، تم إنشاء اتفاقية باريس للمناخ كمعاهدة دولية ملزمة قانونيا تتضمن 195 دولة،  بالحد من الاحتباس الحراري إلى أقل من درجتين (ويفضل 1.5 درجة مؤية) مقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية الأولى.

climate action in new zealand

على الرغم من جميع المبادرات والأهداف التي تقدمها الدول في مجال تغير المناخ، تشير تحاليل هيئة المناخ إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض أكثر من الأهداف المرسومة في الأتفاقيات المناخية. مما يؤكد وجود فجوات في برامج التحولات الوطنية لمكافحة المناخ. وكما تؤكد الدراسات إلى وصول الانبعاثات الكربونية إلى مستويات تتجاوز أهداف اتفاقية باريس، كما أن التحديات التي تواجه التقنيات والاقتصادات المتعلقة بالطاقة النظيفة، تلعب دورا في صعوبات تحقيق الأهداف المناخية مستقبلا. فالاتفاقية المناخية اليوم تبدو ضعيفة في الحد من الأحترار العالمي، وهذا ما قد يجبرنا الى اعادة صياغة وفلسفة علاقتنا ببيئتنا المحيطة.

التوقعات المستقبلية

اليوم تبرهن الطبيعة ان الأنشطة البشرية قد تسببت في نشوب هذه الظواهر المتطرفة، وان علاقة الإنسان ببيئته المحيطة قد ضعفت منذ أن اندلعت الثورة الصناعية الأولى. وأن التقنيات والاتفاقيات المناخية وحدها لن تكون كافية في  الحد من هذه الظواهر. لذلك،  سوف نحتاج في إحداث طفرة وتغير كبير في أنظمتنا الحالية، وإدماج الاعتبارات البيئية في الخطط والسياسات والمجالات الصناعية والعمرانية سوف يكون مهم في التغلب على هذه التحديات. وبتضافر الحكومات والمجتمعات ككل قد نحتاج إلى بناء أنظمة مستدامة توظف جميع الموارد التي تساهم في إعادة تطوير علاقة الإنسان بالبيئة. ولعل من النماذج البارزة على ذلك، مدينة ذا لاين التي تقع في شمال غرب المملكة العربية السعودية،  فهي مثال يحتذى به لجميع دول العالم في كيف يجب أن تصبح حياتنا ومدننا في المستقبل في ظل هذه الأزمات. فبسبب مثلا تصميمها البيئي والهندسي تتمتع بصافي انبعاثات لخلوها من الشوارع والسيارات ومناخ مثالي مستقل على مدار العام لا يتأثر بالجوانب المحيطة. هذا ما قد يحتاجه العالم في الوقت الحالي من ابتكار طرق معيشية جديدة لاعادة البشرية ببئتهم المحيطة.

References

  1. Nunes, L.J., 2023. The rising threat of atmospheric CO2: a review on the causes, impacts, and mitigation strategies. Environments, 10(4), p.66.
  2. Kennedy, J., Trewin, B., Betts, R., Thorne, P., Foster, P., Siegmund, P., Ziese, M., Mishra, S., Uhlenbrook, S., Alvar-Beltran, J. and Gialletti, A., 2024. State of the Climate 2024. Update for COP29.
  3. Keong, C.Y., 2019. The Ocean Carbon Sink and Climate Change: A Scientific and Ethical Assessment. International Journal of Environmental Science and Development, 10(8), pp.246-251.
  4. Pörtner, H.O., Roberts, D.C., Masson-Delmotte, V., Zhai, P., Tignor, M., Poloczanska, E. and Weyer, N.M., 2019. The ocean and cryosphere in a changing climate. IPCC special report on the ocean and cryosphere in a changing climate, 1155, pp.10-1017.
  5. Jevrejeva, S., Jackson, L.P., Riva, R.E., Grinsted, A. and Moore, J.C., 2016. Coastal sea level rise with warming above 2 C. Proceedings of the National Academy of Sciences, 113(47), pp.13342-13347.
  6. Browning, O. (2024) ‘Panama Canal faces water crisis amid drought and growing demand’, Independent Newspaper.
  7. European Commission. Persistent droughts: critical water shortages and crops threatened. Available:https://joint-research-centre.ec.europa.eu/jrc-news-and-updates/persistent-droughts-critical-water-shortages-and-crops-threatened-2024-07-31_en [Accessed 2nd March 2025].
  8. United Nations Framework Convention on Climate Change. Conference of the Parties (COP). Available: https://unfccc.int/process/bodies/supreme-bodies/conference-of-the-parties-cop [Accessed 7th April 2025].
  9. United Nations Framework Convention on Climate Change. The PARIS AGREEMENT. Available:https://unfccc.int/sites/default/files/resource/parisagreement_publication.pdf [Accessed 7th April 2025].
  10. Panagiotopoulou, V.C., Paraskevopoulou, A., Stavropoulos, P. and Sector, E., 2024. Urban and industrial energy usage and consumption. Encyclopedia of Renewable Energy, Sustainability and the Environment, p.21
Tagged , , , , , , , . Bookmark the permalink.

About Ahmed Al Nashrey

Ahmed Al Nashrey is a sustainability professional and writer with previous publications on climate change and environmental issues. A graduate of Newcastle University with a degree in Sustainable Chemical Engineering, he focuses on the intersection of clean energy, climate adaptation, and sustainable development in the Arab world.

One Response to هل تغير المناخ سيعيد تشكيل حياتنا

  1. versatilefreely16aaf4b186 says:

    Thanks for informing us but the only way to support the parts of Mid African countries we need support.

Share your Thoughts

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.