لم يعد الحديث عن أزمة المياه في العراق مجرد تحذير بيئي أو إنذار أكاديمي، بل أصبح توصيفًا دقيقًا لوضع وجودي يهدد حياة الملايين. في صيف 2025، يواجه العراق أسوأ تراجع في موارده المائية منذ قرن. المخزون في السدود الكبرى مثل الموصل، حديثة، ودربندخان وصل إلى مستويات حرجة تكاد تلامس “الخزين الميت” الذي لا يمكن استخدامه للشرب أو الري. الأنهار التي كانت شريان الحضارة السومرية لم تعد قادرة على تلبية الحد الأدنى من احتياجات الشعب، فيما تتصاعد المخاطر على الأمن الغذائي والصحي والاجتماعي.
واقع المياه في العراق – أرقام 2025
نهر دجلة: تراجعت الإيرادات الواردة من تركيا بنسبة تزيد عن 60% مقارنة بمتوسط 1980–2000.
نهر الفرات: التدفقات الحالية لا تتجاوز 30% من معدلاتها التاريخية بسبب السدود التركية والسورية.
السدود العراقية: بيانات وزارة الموارد المائية (تقرير شباط 2025) تشير إلى أن إجمالي الخزين المتاح لا يغطي سوى 3 أشهر من الاستهلاك إذا استمرت معدلات السحب الحالية.
المياه الجوفية: الاعتماد المفرط على الضخ غير المستدام أدى إلى انخفاض مناسيب المياه الجوفية في السهل الرسوبي بمعدل 1.5 متر سنويًا.
تراجع المخزون المائي وأثره المباشر
غياب الخزين الإستراتيجي يعني أن العراق دخل مرحلة “اللا أمان المائي”. وهذا يترجم إلى:
الزراعة: تقليص خطط الزراعة الصيفية بنسبة 70%، خصوصًا محصول الأرز (الشلب) في الديوانية والنجف، والذرة في بابل وواسط.
الطاقة: انخفاض إنتاج الكهرباء من السدود الكهرومائية بنسبة 50%، ما زاد الضغط على شبكة الكهرباء الوطنية.
المياه الصالحة للشرب: محافظات البصرة وذي قار وميسان تسجل أعلى مستويات الملوحة منذ 20 عامًا، مع وصول نسب الملوحة إلى 8000–10000 جزء بالمليون في بعض مناطق شط العرب (بيانات منظمة FAO – 2024).
التحديات البيئية المرافقة
التصحر: أكثر من 39% من الأراضي الزراعية خرجت من الخدمة بسبب نقص المياه وزحف الرمال (تقرير UNCCD – 2024).
فقدان التنوع البيولوجي: الأهوار الجنوبية، المصنفة ضمن التراث العالمي، تقلصت مساحتها بأكثر من 50% خلال عامين فقط (2023–2025).
التلوث: تركيز الملوثات الصناعية والزراعية في مجاري الأنهار تضاعف مع انخفاض التدفق، مما جعل المياه غير صالحة حتى للاستخدام الزراعي في بعض المناطق.
الأبعاد الاجتماعية والسياسية
النزوح الداخلي: آلاف العوائل في ذي قار والمثنى هجرت أراضيها الزراعية واتجهت نحو أطراف بغداد ومدن الوسط.
البطالة الريفية: انهيار قطاعي الزراعة وصيد الأسماك دفع نسبة البطالة الريفية إلى مستويات تفوق 40%.
الصراع الإقليمي: غياب الاتفاقيات المائية الملزمة مع تركيا وإيران جعل العراق الحلقة الأضعف في معادلة تقاسم المياه.
الفرص والحلول الإستراتيجية
أ. إصلاح إدارة المياه داخليًا
اعتماد أنظمة ري حديثة (الري بالتنقيط والرش) بدلاً من الغمر التقليدي.
معالجة الفاقد المائي في الشبكات الذي يصل إلى 40%.
إطلاق برنامج وطني لإعادة تدوير المياه العادمة.
ب. التحرك الإقليمي والدولي
الدخول في مفاوضات مباشرة وشفافة مع تركيا وإيران، بدعم من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
تفعيل الدبلوماسية البيئية كملف سيادي على طاولة العلاقات الخارجية.
ج. الاستثمار في تحلية المياه
إنشاء محطات تحلية على الخليج العربي لتأمين مياه الشرب في البصرة بدلاً من الاعتماد على شط العرب شديد الملوحة.
د. بناء “صندوق الأمن المائي”
مخصص للاستثمار في البحوث والتكنولوجيا (مثل حصاد مياه الأمطار، أنظمة المراقبة بالأقمار الصناعية، والطاقة المتجددة المرتبطة بالتحلية).
الأمن المائي في العراق لم يعد قضية بيئية أو اقتصادية فقط، بل أصبح قضية سيادة ووجود. إذا استمرت الاتجاهات الحالية دون تحرك عاجل، فإن السنوات الخمس المقبلة قد تشهد أزمة إنسانية كبرى تتمثل في فقدان الغذاء، تفشي الأمراض، وانفجار موجات النزوح الداخلي والخارجي. العراق يقف اليوم على حافة هاوية مائية، وما لم تتحرك الحكومة بدعم المجتمع الدولي لتطبيق حلول جذرية، فإن “أرض الرافدين” مهددة بفقدان أنهارها التي صنعت حضارتها.
المصادر (مختارة 2023–2025)
- وزارة الموارد المائية العراقية – تقرير الخزين المائي، شباط 2025.
- FAO – Iraq Water Scarcity Report, 2024.
- UNCCD – Desertification in Iraq, 2024


Pingback: أزمة المياه في العراق لعام 2025: تحديات واستراتيجيات في مواجهة الابتزاز التركي – موقع حمورابي للدراسات الاستراتيجية