في بلدٍ وُلِدَ على ضفاف دجلة والفرات، تبدو مفارقة تلوّث المياه مأساة مزدوجة: مائيّة وهُويّاتية. فالعراق الذي علّم البشرية نظم الري والزراعة، أصبح اليوم يواجه واحدة من أخطر أزمات تلوث المياه في الشرق الأوسط، حيث تختلط ملوحة شط العرب بنفايات المستشفيات، وتتقاطع قنوات الري مع مجاري الصرف الصحي، في مشهد يعكس عمق الخلل البيئي والسياسي والإداري.
أولًا: مصادر التلوث المائي في العراق
رغم أن الصورة العامة تشير إلى “شح المياه”، إلا أن نوعية المياه تمثل تهديدًا أكبر، وأكثر خفاءً.
مياه الصرف الصحي غير المعالجة
- أكثر من 70% من مياه الصرف الصحي في العراق تُصرّف مباشرة في الأنهار دون معالجة، وفق تقارير وزارة البيئة.
- في بعض المحافظات مثل البصرة، تُقدّر الكمية اليومية المطروحة في شط العرب بأكثر من 300 ألف متر مكعب من المياه الملوثة.
التلوث الصناعي: السموم الثقيلة بلا حسيب
- بعض المصانع، خاصة في نينوى والأنبار، تطلق معادن ثقيلة مثل الزئبق والرصاص والكروم إلى المجاري المائية.
- هذه المواد لا تتحلل طبيعيًا، وتؤدي إلى تراكم بيولوجي خطير في الكائنات الحية، مما يهدد صحة الإنسان والنظام البيئي.
التلوث الزراعي: السم القاتل الصامت
- الاستخدام المكثف للأسمدة الكيمياوية والمبيدات، خاصة في المناطق الزراعية على ضفتي دجلة والفرات، أدى إلى زيادة تركيز النترات والفوسفات في المياه.
- هذا التلوث يُحفّز ظاهرة الإثراء الغذائي (Eutrophication) التي تؤدي إلى نفوق الأسماك، وتغيّر لون ورائحة الماء.
ثانيًا: كيف أصبح شط العرب مالحًا وسامًا؟
شط العرب، المصبّ التاريخي للحياة العراقية، يواجه اليوم زحفًا ملحيًا مدمرًا بسبب:
- انخفاض مناسيب دجلة والفرات، ما أتاح لمياه الخليج المالحة التوغل عكس التيار.
- غياب السدود التحويلية وندرة محطات المعالجة.
- تصريف مياه البزل والمجاري والصناعات النفطية مباشرة في النهر.
ثالثًا: التغير المناخي يفاقم المشكلة
قلة من الناس يعرفون أن ارتفاع درجات الحرارة في العراق يضاعف ملوحة المياه. كيف؟
- كل درجة حرارة إضافية تُسرّع تبخر المياه السطحية، وتزيد تركيز الأملاح والملوثات.
- الجفاف يقلل من تدفق الأنهار، مما يقلل من قدرة النهر على “تخفيف” الملوثات.
- التغير المناخي يؤثر على الدورة الهيدرولوجية في العراق، ويزيد من فترات الجفاف، ويقلل الأمطار، مما يضعف تغذية المياه الجوفية ويزيد الضغط على المصادر السطحية.
رابعًا: تأثير التلوث على صحة الإنسان
- شهدت البصرة في صيف 2018 أكبر موجة تسمم جماعي في تاريخ العراق الحديث، حيث أصيب أكثر من 100 ألف شخص بسبب تلوث المياه.
- الأمراض الأكثر شيوعًا المرتبطة بتلوث المياه تشمل: الكوليرا، الإسهال المزمن، التهاب الكبد الفيروسي، التسمم بالمعادن الثقيلة.
- المشكلة لا تقتصر على المناطق الجنوبية. في بغداد مثلًا، ما زالت بعض الأحياء تسحب المياه من مصادر ملوثة بشكل مباشر أو غير مباشر.
خامسًا: تأثيرات بيئية مهملة
- تدهور النظام البيئي في الأهوار، خاصة في هور الحمار وهور الحويزة، نتيجة تدفق المياه الملوثة، أدى إلى هجرة جماعية للطيور والأسماك، واختفاء بعض الأنواع المحلية.
- ملوحة التربة تتفاقم بسبب الري بمياه ملوثة، ما يسبب تراجع الإنتاج الزراعي في وسط وجنوب العراق.
- تحوّلت بعض القنوات الزراعية إلى برك آسنة حاضنة للبكتيريا والطفيليات، مما يخلق بيئة خصبة للأوبئة.
سادسًا: معلومات نادرة لا يعرفها الكثير
- توجد شبكات صرف صحي قديمة ومهترئة في بعض مدن الجنوب، ما يؤدي إلى تسرّب مياه المجاري إلى شبكات الشرب عند انقطاع الضخ أو انخفاض الضغط.
- هناك أدلة غير منشورة على أن نسبة النيترات في مياه الشرب في بعض المناطق تتجاوز المعايير الدولية بـ5 أضعاف، مما يشكل خطرًا خاصًا على الأطفال والحوامل.
- بعض المزارعين في نينوى والأنبار يضطرون لاستخدام مياه الأنهار الملوثة لري محاصيلهم، مما يؤدي إلى نقل التلوث إلى المنتجات الزراعية نفسها.
سابعًا: ما الحل؟ نحو مستقبل مائي نظيف
- ثورة في البنية التحتية
- بناء محطات معالجة متقدمة للمياه الرمادية والسوداء في كل محافظة.
- تحديث شبكات المياه والصرف، ومنع التوصيلات العشوائية التي تسبب التلوث المتبادل.
- تشريعات حازمة
- فرض غرامات على المصانع التي تطرح نفاياتها دون معالجة.
- مراقبة الاستخدام الزراعي للمبيدات والأسمدة، وتشجيع التحول إلى الزراعة العضوية.
- استثمار في تقنيات المعالجة اللامركزية
- استخدام أنظمة معالجة مائية صغيرة (Decentralized Units) في المناطق الريفية والنائية.
- دعم مشاريع إعادة استخدام المياه الرمادية في الري والتشجير الحضري.
- توعية وتعبئة مجتمعية
- يجب تحويل المياه من “مورد” إلى “قضية وجود”.
- دعم مبادرات رصد مجتمعي للتلوث، وإشراك المدارس والجامعات في حملات المراقبة والتبليغ.
وفي ختام هذا المقال المتواضع ودتت التوضيح
ان تلوث المياه في العراق لم يعد مجرد ملف بيئي، بل هو قضية أمن قومي وصحة عامة وكرامة إنسانية. السكوت عن التلوث هو مشاركة ضمنية في الجريمة. والمعالجة تبدأ بإعلان الطوارئ، ووضع المياه على رأس أولويات الدولة، والانفتاح على خبرات الداخل والخارج، وخلق شراكات بين المواطن والخبير وصانع القرار. العراق لا يحتاج فقط إلى “مشاريع ماء”، بل إلى رؤية مائية ذكية، عادلة، وعاجلة


Thank you for this paper; quite useful. Its quite sad that Iraq is suffering from both water quality and quantity while two major rivers flow through it!!
Hadi Tabbara, Ph.D
Thank you Dr.Hadi for you kind comments Our two rivers are in a bad condition, as is the condition of all sectors in Iraq. The Minister of Resources warned that the water reserve will run out next summer if there is no rain.