التغير المناخي وقمة باريس: الإجماع البيئي العالمي

مما لا شك فيه أن قمة المناخ في باريس أظهرت جليا مدى قوة الخطاب البيئي ودبلوماسية البيئة  وقدرتها على توحيد الأمم وقادة العالم والمجتمع المدني لحماية الأمن الأنساني-البيئي.هذا الإتفاق يقتضي إالتزامات من كافة الدول مثل التكيف وتخفيف آثار التغير المناخي ودعم الدول النامية ونقل التقنية النظيفة للحد من حرارة الكوكب بما لا يزيد عن درجتين مئويتين أو أقل لغاية  (1.5  للعام 2050.  لكن هذا الإتفاق بحاجة إلى استثمار (100 بليون سنويا بحلول عام 2020) من دول الشمال الصناعي تجاه العالم النامي حيث أن ما نسبته عشرة بالمئة من الدول الصناعية تساهم بما قيمته خمسين بالمئة من إنبعاثات غاز ثاتي أكسيد الكربون. وكذلك هذا الإتفاق بحاجة إلى موافقة البرلمانات لأنه ما زالت أصوات تنادي بعدم المصادقة على إتفاق يحد من النمو الإقتصادي.

قد يبدو للبعض أن الإتفاق كان واقعيا ودون الطموح لكنه خطوة متقدمة عن كوبنهاجن وأقرته الدول النامية ومن ضمنها الهند والصين والدول النامية والعربية. القيادة العالمية لأكثر من 190 دولة وازنت بين علم المناخ وسياسة المناخ وتجاوزت أزمة الفعل الجمعي عبر إعتماد مشاركة الدول الطوعية بخفض الإنبعاثات بشفافية شريطة مراجعة مساهمات كل دولة قبل العام 2020. لكن يبقى التساؤل عن مدى عقلانية العالم في التفاوض على مستقبلنا المشترك على هذا الكوكب الهش. إذا كان علم المناخ هو الذي يرفد القرار لحماية الحياة على الأرض فما مدى هامش التفاوض لدى قادة العالم خاصة وأن شعار القمة “ليس لدينا كوكب آخر”.

اتفاق باريس أقر بوجود فجوة بين تعهدات الدول لخفض الإنبعاثات والهدف المنشود للوصول لأرتفاع حرارة الأرض بمقدار درجتين ولكنه حدد مبدأ العدالة والمسؤولية المشتركة لكن المتباينة للحد من التلوث وكذلك ربط عدالة المناخ بحقوق الإنسان لم يرد إلا في المقدمة. هناك مراجعة كل خمس سنوات للتأكد من مدى الإلتزام وهناك نص يفيد بأنه يجب على الدول زيادة نسبة الإلتزام مع الزمن لتحقيق الهدف المنشود ضمن الأاتزام الطوعي لكل دولة. ومع حلول عام 2025 سيتم تحديد قيمة الألتزام المالي بمقدار 100 بليون كل عام وكيفية وآلية جمعه وصرفه. هناك آليات للتواصل ولتبيان مدى الإلتزام للدوا الصناعية كل سنتين. هذه كلها إنجازات ضمن سياسة فن الممكن في عالم تحكمه أجندات ومصالح الدول الصناعية. لكن أدركت الدول النامية أنها يجب أن تجلس على طاولة المفاوضات وتطالب بحقها وإلا فلن يجدي منطق التشكيك بعلم المناخ ومصداقية قمة المناخ.

لكن جوهر المشكلة البيئية مرتبط بنمط التنمية والإستهلاك والإنتاج الذي أدى إلى تدهور الأنظمة البيئية نتيجة نسق التفكير الغربي، ونمط التنمية الغربية اللذين يعتمدان مبدأ النمو لأجل النمو، والتشجيع على الاستهلاك المفرط. إن البقاء على نفس وتيرة النمو هو الذي أدى الى حالة تردي حالة الحياة الإنسانية، المتمثّلة في إزدياد هوة الفقر والجوع والتلوث. تكمن أهمية قمة المناخ في باريس في طرح الإسئلة الجوهرية المرتبطة بالعدالة البيئية والمواطنة البيئية ومسؤلية الملوث في الدعم المالي والتقني وبناء قدرة دول العالم النامي لمواجهة آثار التغير المناخي.  المسؤلية الإنسانية عن أمن الكوكب وعمارة الأرض هي مسؤولية الجميع لأنه لا إنفصال بين الأمن البيئي والإنساني. التحول للطاقة النظيفة والمتجددة وكذلك تعديل ومراجعة نمط التنمية يعد ضرورة للحد من ظاهرة التغيّر المناخي. إن هذا التلوث الذي يفوق الطاقة الإستيعابية للكوكب  هو دليل على فشل آلية السوق في حماية البيئة وما يرافق تدهورها من أخطار على الأمن الغذائي والمائي والإنساني. قمة المناخ تعطينا درسا أساسيا في أنه لا يمكن تحديد إطار القيادة الإنسانية للعالَم بالدول القطرية، وقصره عليها بمنأى عن المسؤوليات الأخلاقية والإنسانية للجميع تجاه الكوكب، وتجاه الجيل القادم، وتجاه فقراء العالَم؛ إذا رغبنا تحقيق تنمية المستدامة في ظلّ حكم عالمي عادل ورشيد.

لقد شهد القرن العشرين جدلاً واسعاً حول الأثر السلبي لنمط التنمية الغربي، ومفهومه للنمو، وربطه للسعي نحو السعادة من خلال الاستهلاك المفرط، وتحويل الكماليات إلى ضروريات. كما تعرّض البيئيون لنقد نمط التنمية الغربي وأثره السلبي في تدهور الموارد الطبيعية، وتلوّث الماء والهواء والتربة. والآن، ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين، فإنّا نشهد نموّاً متصاعداً لدول آسيا، من مثل: الصين، والهند. فالنمو المتصاعد في الصين مثلاً يقتضي استهلاكاً واستنزافاً لموارد الكوكب، من مثل: الحبوب، واللحوم، والحديد، والأخشاب، والطاقة؛ ممّا يدعونا إلى التحقّق من جدوى محاكاة النموذج الغربي، من حيث: الاستهلاك المفرط، واستخدام الطاقة الأحفورية (غاز، فحم، نفط)، وهو ما يُؤثِّر سلبياً في صحة الإنسان، ويضر بالكوكب والاقتصاد.

من المهم هنا بيان الفرق بين التنمية والنمو؛ فالنمو يرنو إلى جعل الأشياء أكبر، بينما تهدف التنمية إلى جعل الأشياء أفضل. وعلى الرغم من زيادة الإنتاج العالمي مرات تقريباً خلال المئة سنة الماضية، إلّا أنّ ذلك أدى إلى تدهور في النظام البيئي لم تشهده البشرية في تاريخها، وهو صورة من صور إهلاك الحرث والنسل، والفساد في الأرض بما كسبت أيدي الناس. ومن وجهة النظر الاقتصادية، فحين يصبح النمو غير فاعل اقتصاديّاً نتيجة الآثار السلبية والجانبية، فلا بُدّ من مراجعة نمط التنمية، وطرائق قياس النمو التي تعتمد الدخل القومي GNP))؛ لأنّها لا تُقدِّم صورة حقيقية للنمو.

ومن المحزن حقّاً أنّ الحروب والتسلح والإحتلال وسيادة ثقافة الإستهلاك في عالمنا العربي تفضي إلى تلويث البيئة وزيادة تركيز انبعاثات الكربون، وإحداث خلل في التوازن الكوني والحالة الطبيعية ((Natural State أو الفطرة، ويظهر ذلك جليّاً في ما نعيشه اليوم من آثار التغيّر المناخي أو الاحتباس الحراري، التي يُهدِّد الحرث والنسل ومستقبل البشرية، وكل ذلك مرتبط بخياراتنا ونمط حياتنا وبما كسبت أيدي الناس. إنّ عولمة السوق الاقتصادية، تستدعي إيجاد آليات مناسبة للمجتمع المدني للتعبير عن الرأي الآخر بحرية،ويتمكن من نصح  ونقد المجتمع والسياسات العامة لأن كل ذلك هذه الإجراءات تُشكِّل صمام أمان اجتماعي وثقافي يُسهِم في خدمة المهمَّشين والفقراء. إن قدرة المجتمع المدني من أن يطرح خطاباً ورؤيةً مشتركةً للتصالح مع كل ما يحيط بنا، ضمن منظومة متناغمة للاقتصاد والثقافة البيئية هو مؤشر على إستدامة المجتمع.

ولعل أحد أهم الدروس التي يمكن أن نتعلّمها من أصحاب الحضارات القديمة، هو عجزهم عن استشراف المستقبل وإدراكه والتصدي لمخاطر المناخ. انهارت وبادت حضارات لعدم تحقيق شروط الإستدامة والعدالة الإجتماعية، وعدم نجاحهم في التوصّل إلى حلول ناجمة للمشاكل المتعلقة بالأمن الغذائي-المائي-الطاقة؛ لقد اندثرت حضارات مثل سبأ والمايا لأسباب عدّة؛ أبرزها: تدمير الموارد الطبيعية (رأس المال الطبيعي) بالاستغلال الجائر للغابات، وانجراف التربة، وتغيّر المناخ، وموجات الجفاف، بالإضافة إلى النزاعات والحروب، وعدم التصدي للمشاكل الرئيسة التي تعيق التنمية. وهذا يدعونا إلى إعادة النظر في طرائق قياس تقدّم المجتمع التي تعتمد معايير اقتصادية محددة وغير دقيقة، من مثل: الدخل القومي (GNP)، أو مؤشر التنمية البشرية (HDI) ومؤشر الإستدامة.

لذا حتى تحقق قمة المناخ مبدأ العدالة البيئية لا بد من تحديد المسؤولية التاريخية عن الخلل في توازن الكوكب والتصدي من أجلتحقيق أهداف التنمية المستدامة لما بعد 2015. إن تعدي الدول الصناعية والشركات العابرة القارات على موارد العالَم النامي وسلب السكان الأصليين حقوقهم بذريعة الأمن القومي وأمن الموارد والطاقة، وفي ذلك إزدواجية في معايير العدالة والنزاهة ؛ فالحروب والنزاعات في كلٍّ من: العراق، والسودان، وفلسطين وغيرها، هي خير شاهد على مدى الفساد الذي ألحقته هذه الحروب بالإنسان والبيئة، فضلاً عن تراجع فرص التنمية مقابل التسلّح.

إنّ المتأمّل للكّم الهائل المتسارع لتردي حالة الأرض من تصحر وتلوث وما يرافقه من حجم التسلح والفقر وتراجع ومؤشرات التنمية في المنطقة العربية  ومعدلات الفقر والبطالة والتشرد في المنطقة العربية؛ سيهوله مدى استفحال مناحي الفساد في هذه المنطقة. إنّ فهم فقه المقاصد وعمارة الأرض وصناعة الحياة تُؤكِّد القاعدة “درء المفاسد مُقدِّم على جلب المصالح”. لذا، يجب مراعاة مبدأ الحيطة (Precautionary Principle)، الذي يقضي بعدم إحداث خلل في الإنسان والبيئة، وهذا المبدأ هو نقيض المبدأ المعتَمد في النظام الرأسمالي، الذي ينص على أنّ “الـمُلوِّث هو الذي يدفع” (Polluters Pay)؛ أي أنّه يمكن تعويض الـمُتضرِّر عن آثار التلوّث، وهذا خلل واضح في التفكير؛ إذ إنّ بعض أنواع التلوّث لا يمكن معالجة آثارها (Irreversible). كما لا يمكن تعويض الخلل في النظام الطبيعي بالمال.

إن جوهر الأزمة البيئية يكمن في حرص الدول الغنية (10% منها تسهم في %50 من التلوث العالمي ) على وتيرة النمو المضطرد ونمط الحياة، بينما يطالب الآخرون (50% منهم يسهموا في 10% من التلوث) بالحد من التلوث ودفع ثمن التلوث الذي عمره أكثر من ثلاثة قرون من التقدم الصناعي في دول الشمال. خلاصة القول إنّنا بأمس الحاجة إلى تطوير فكر جديد لحساب تلوث المناخ بحيث يعتبر الإستهلاك ضمن المعادلة لأن العديد من السلع يتم إنتاجها في دول خارج الدول المستهلكة. قمة باريس تذكرنا أن القرار السياسي يسمع لصوت العلم وللمجتمع المدني لكن هذا الإتفاق يمثل إزاحة في الفكر البيئي بحيث تتحمل كل دولة حصتها “العادلة والمعقولة” ضمن منطق المنفعة الإقتصادية. إن حماية هذا الكوكب تعني بالضرورة أن علينا جميعا تمثُّل أخلاقيات عمارة الكون التي  تتطلّب توازناً  محكماً بين رأس المال الاجتماعي والإنساني والطبيعي؛ حتى لا نُثِقل كاهل الأرض بمخلّفات تُفضي إلى حرمان الجيل القادم من الحياة الطيبة ، وحتى لا ينتهي بنا المطاف إلى حالة “بئر معطلة وقصر مشيد”.

Tagged , , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

About Odeh Rashed Al-Jayyousi

Odeh Al-Jayyousi is a professor in the Department of Technology and Innovation Management at Arabian Gulf University (Bahrain). He is also an independent consultant and a founder of Sustainable Development Professionals for Environmental Consulting (Jordan). He was the vice president for science and research at the Royal Scientific Society (RSS) in Jordan during 2011-2013. He was the regional director for IUCN – The International Union for Conservation of Nature - West Asia / Middle East regional office during 2004-2011. He was dean of research and professor in civil engineering during 1994-2004. Prof Al-Jayyousi is a founding board member Jordan Green Building Council, and a member of the Advisory Board for MSc program in IWRM between Cologne and Jordan University. He has also authored a popular book on “Islam and sustainable development”.

4 Responses to التغير المناخي وقمة باريس: الإجماع البيئي العالمي

  1. Pingback: دعم التمويل المناخي بالدول العربية : آستثمار لغد أفضل | EcoMENA

  2. Pingback: وعي المواطن ومسؤوليته تجاه تحدي تغير المناخ | EcoMENA

  3. Pingback: جودة الهواء في الأردن – المخاوف الرئيسية | EcoMENA

  4. Pingback: التغيرالمناخي و الكوارث الطبيعية | EcoMENA

Share your Thoughts

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.