التطور: من الأفكار الفلسفية إلى التركيب التطوري الحديث

منذ الأزل, تطور العلم تدريجياً بدءًا من الفكر الفلسفي في الحضارات القديمة، مرورًا بمراحل التضخم المعرفي في العصور الوسطى، ووصولًا إلى الثورة العلمية في العصر االحديث. وبفضل هذا التطور، وصلنا إلى العلم التجريبي الحديث، الذي وسع آفاق المعرفة الإنسانية وحقق إنجازات غير معهودة في مختلف المجالات.

العلم التجريبي هو المنهج العلمي المتبع للتحقق من صحة نظرية ما، فإما أن يثبتها فتصبح حقيقة علمية أو ينفي صحتها فتغدو معلومة خاطئة. يعتبر العلم التجريبي عملية ديناميكية تعتمد على الملاحظة والتجربة لاكتشاف وفهم الظواهر الطبيعية, ويتميز هذا النوع من العلم بالتحقق من صحة النظريات العلمية من خلال تجارب قابلة للتكرار،بحيث يمكن للعلماء إعادة إجراءها والحصول على نتائج مماثلة تدعم أو تدحض الفرضية.

human evolution

كما يتميز العلم التجريبي بتطوره المستمر تزامناٌ مع ظهور بيانات جديدة, بل ويتم تعديل النظريات أو استبدالها عند اكتشاف أدلة موضوعية أكثر دقة بعيدًا عن الآراء الشخصية، مما يضمن حيادية ودقة النتائج وموثوقيتها.

يسعى العلم التجريبي إلى تفسير الظواهر الطبيعية وفهم قوانينها بطريقة منظمة وموثوقة، مما يسمح بإجراء تنبؤات علمية يمكن اختبارها تجريبيًا.

تعتبر النظرية من الأركان الاساسية للعلم التجريبي, تعرف النظرية العلمية بأنها تفسير منهجي منظم يعمل على شرح مجموعة كبيرة من الظواهر الطبيعية والحقائق كما انها قادرة على التنبؤات التي يمكن اختبارها تجريبياٌ. علاوة على ذلك، تتميز بأنها قابلة للتنقيح والتطوراستناداً إلى الأدلة الجديدة، ومن ثم استخدامها لعمل تنبؤات جديدة قابلة للاختبار. وعليه ومن خلال دورة مستمرة من التنبؤ والاختبار والتحسين تغدو النظرية أكثر دقة وشمولية. وبالتالي، يجب أن يكون هنالك تكاملاً بين العمل النظري والتجريبي. ومن الواجب التنويه أن التعريف العلمي للنظرية يتناقض مع التعريف الذي يستخدمه العامة, فالعامة يرون أن النظرية هي مجرد رأي شخصي أو تخمين أو افتراض غير مؤكد وتحتاج إلى اثباتات.  بينما تبدأ النظرية العلمية بالملاحظة، ثم الفرضية لتفسير ظاهرة متكررة في الطبيعة لا يوجد لها تفسير علمي واضح ثم اختبارها بالأدلة حتى تنال القبول العلمي, أما في حال وجود تفسير علمي أفضل سيتم إما تعديل النظرية أو تغير منظورها (paradigm shift).

تاريخ نظرية التطور

تُعد نظرية التطور حجرالزاوية في العلوم الحياتية الحديثة، وهي مدعومة بأدلة قوية من شتى المجالات العلمية. يمتد تاريخ نظرية التطور عبر قرون، حيث بدأت كتصورات فلسفية، مرورًا بنظريات لامارك وداروين، ووصولًا إلى التركيب التطوري الحديث وعلم الجينوم. كل مرحلة ساهمت في بناء فهمنا الحالي لعملية التطور. فيما يلي استعراض لتاريخ نظرية التطور:

1. الأفكار الفلسفية القديمة

ناقش بعض الفلاسفة الإغريق فكرة تغيّر الكائنات الحية عبر الزمن. فلقد طرح أناكسيماندر (610–546 ق.م)[i] أفكارًا بدائية عن التطور, واعتقد أن نشوء الحياة بدأ من الماء وأن الكائنات تطورت عبر الزمن من أشكال أبسط. أما نظرية (Spontaneous Generation) فهي تتبنى فكرة نشوء الكائنات الحية تلقائيًا من مواد غير حية, ودحضت من خلال العلم التجريبي وباتت جزءًا من تاريخ العلم.

2. العصور الوسطى

اعتمدت الأفكار السائدة آنذاك على التفسيرات الدينية، لكن بعض العلماء المسلمون مثل الجاحظ وابن خلدون طرحوا أفكارًا عن التغير والتكيف. فلقد أشار الجاحظ في كتابه الحيوان  إلى فكرة “الصراع من أجل البقاء” وأن الكائنات تتنافس على الموارد المحدودة وهو مفهوم قريب مما سيُعرف لاحقًا بالانتخاب الطبيعي. كما لاحظ الجاحظ أن الحيوانات تتكيف مع بيئتها، وأن بعض الصفات تظهر نتيجة لهذا التكيف. أشار أيضاً إلى أن البيئة تؤثر على تطور الكائنات. أما ابن خلدون, وبالرغم أن تركيزه الأساسي كان على تطور المجتمعات البشرية إلا أن أفكاره تعتبر إرهاصات مبكرة لفهم التطور، مما يجعله أحد الرواد الذين ساهموا في تطوير الفكر التطوري. لاحظ أن المجتمعات تمر بمراحل من النمو والانحدار، مشبهًا إياها بدورة حياة الكائنات، وأشار إلى أن البشر يتكيفون مع بيئاتهم الجغرافية والمناخية، مما يؤثر على ثقافاتهم. كما ناقش فكرة الصراع من أجل الموارد بين المجتمعات، ورأى أن التغير يحدث بشكل تدريجي وليس فجائيًا.

3. بدايات الفكر التطوري (1700-1800)

اقترح بوفون أن الأنواع قد تتغير مع الزمن بسبب تأثير البيئة، وقال في هذا الصدد: “الطبيعة تتحرك بخطوات بطيئة، ولكنها لا تعود أبدًا إلى الوراء.” كما كتب إراسموس داروين، جد تشارلز داروين، عن إمكانية تطور الكائنات من أصل مشترك، مقدماً أفكارًا مبكرة ساهمت في تمهيد السبيل لنظرية التطور التي طورها حفيده لاحقًا.

4. تأسيس نظرية التطور1800-1900

  • نظرية الوراثة المكتسبة (:(1829-1744طور لامارك نظرية تطور تعتمد على فكرة أن الكائنات تتغير بناء على استخدام أو عدم استخدام الأعضاء استجابةً لبيئتها، وأن هذه التغيرات تورث للأبناء. تم دحض هذه الفكرة لاحقًا بعد اكتشاف قوانين الوراثة حيث تبين أن الصفات المكتسبة لا تورث.
  • توصل ألفريد راسل والاس بشكل مستقل إلى فكرة مشابهة للانتقاء الطبيعي، مما دفع داروين إلى نشر نظريته.
  • نظرية داروين: قدم داروين مفهوم الانتقاء الطبيعي.وتقترح النظرية خضوع الكائنات الحية للتطور يتم من خلاله انتقاء الأفراد الأكثر تكيفًا مع بيئتهم للنجاة والتكاثر, وذلك بسبب وجود تباين طبيعي في الصفات أساسه التباين الجيني بين أفراد النوع الواحد، حيث تمنح بعض هذه الصفات ميزات تزيد من فرص البقاء في ظل الظروف البيئية السائدة. وفقًا لداروين، يحدث التطور مع تراكم هذه السمات المفيدة في المجموعة عبر الأجيال. وهكذا، يعمل الانتقاء الطبيعي كقوة دافعة للتطور، مما يؤدي إلى تغيرات تدريجية في الكائنات الحية على مدى فترات زمنية طويلة، ويسهم في تنوع الحياة على الأرض.

5. القرن 20

في عام 1942,دمج جوليان هكسلي نظرية داروين مع علم الوراثة المندلي بما يسمى بالتركيب التطوري الحديث (Modern Synthesis)، والذي يفسر التطور والتنوع من خلال الطفرات والانتقاء الطبيعي.ومع تقدم العلم،وسع اكتشاف الحمض النووي (DNA) فهمنا لكيفية حدوث التغيرات الجينية المؤدية للتطور.

وفي عام 1972, طور العالمان ستيفن جاي غولد ونيلز إلدردج نظرية التوازن المتقطع Punctuated Equilibrium، وتقترح أن أنواعاً جديدة تظهر فجأة في السجل الأحفوري في مجموعات صغيرة ومعزولة جغرافيًا، ثم تمر بفترات طويلة من عدم التغيير. بعد ذلك، يتمدد النوع الجديد وينتشر، ويتنافس مع أنواع الأسلاف، مما يؤدي إلى انقراضها. تفسر هذه النظرية الفجوات في السجل الأحفوري التي لا يمكن تفسيرها بالتغير التدريجي.

6. القرن 21

وبسبب تطور تقنيات تسلسل الجينوم, تمكن العلماء من دراسة التطورعلى المستوى الجزيئي مما عمق فهمنا لعلاقات التطور بين الكائنات.

نظريات تم تفنيدها أو تعديلها:

نظرية التطورالمتجه (Orthogenesis) :فندت.

نظرية القفزات التطورية (Saltationism):عدلت.

نظرية التدرج (Gradualism)عدلت.

ساهمت هذه النظريات، على الرغم من دحضها أو تعديلها، في تطور الفكر العلمي وفهم أفضل لآليات التطور.فالعلم يتقدم من خلال البناء على المعرفة السابقة والتصحيح المستمر للأخطاء. من الفلسفة القديمة إلى العلم الحديث، تظهر رحلة تطور نظريات التطور عبرالعصور تقدم الفكر البشري في بناء فهم أعمق للعالم مما يؤكد أن العلم هو جسرنا نحو المستقبل.

المراجع العربية والأجنبية

  1. Darwin, C. (1859). On the Origin of Species by Means of Natural Selection. London: John Murray.
  2. Darwin, E. (1794). Zoonomia, or the Laws of Organic Life. London: J. Johnson.
  3. Green, S., Fagan, M. B., & Wylie, C. D. (2015). Evolutionary systems biology: Historical and philosophical perspectives on an emerging synthesis. Journal of Experimental Zoology Part B: Molecular and Developmental Evolution, 324(7), 565–577. https://doi.org/10.1002/jez.b.22627
  4. Bowler, Peter J. Evolution: The History of an Idea. 3rd ed., University of California Press, 1984.
  5. Graham, Daniel W. “Presocratic Philosophy.” The Stanford Encyclopedia of Philosophy, edited by Edward N. Zalta and Uri Nodelman, Fall 2023 Edition, Stanford University, 2023, https://plato.stanford.edu/entries/presocratics/#Ana.
  6. Ibn Khaldun. The Muqaddimah: An Introduction to History. Translated by Franz Rosenthal. Princeton: Princeton University Press, 1967.
  7. Al Jazeera. (2023, February 22). هل يُسقط الإلحاد أهم قواعد منهج العلم؟[Does atheism overthrow the most important rules of the scientific method?]. Al Jazeera Net.
  8. Dajani, R. Why I teach evolution to Muslim students. Nature520, 409 (2015). https://doi.org/10.1038/520409a
  9. الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر.). كتاب الحيوان(عبد السلام هارون، دار الكتب العلمية.
  10. العمري، أحمد خيري. 2016. لا شيء بالصدفة. دار عصير الكتب للنشر والتوريع.
  • [i] The Presocratic Philosophers by G.S. Kirk, J.E. Raven, and M. Schofield (Cambridge University Press).

Tagged , , , , , . Bookmark the permalink.

About Nura A. Abboud

Nura A. Abboud is an environmental activist and Founder of the Jordanian Society for Microbial Biodiversity (JMB), the only NGO in the Middle East concerning the microbial biodiversity. Nura specializes in molecular biology, biological sciences, microbial biodiversity, genetic fingerprinting and medical technologies. Her vision is to establish an eco-research center in the astonishing desert south of Jordan. She has received several scholarships and awards including honorary doctorate in Environmental leadership.

Share your Thoughts

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.